كانت مملكة بيزنطة تتكون بشكل رئيسي من مدينة القسطنطينية، ومن إقليم أرمينيا، ومن مناطق وحصون أخرى داخل أوربا. وقد صمدت زمنًا طويلاً في وجه الفتح الإسلامي، وخاضت حروبًا صليبية ضد المسلمين، كانت في معظمها سجالاً. لكنَّ الله هيأ للمسلمين قائدًا صادق الإيمان، تمكن من توحيد الإمارات الإسلامية التي حول دولة بيزنطة، واحتل معظم أرمينيا، وأصبح كالشوكة في حلق الدولة البيزنطية.
كان ذلك القائد هو البطل التركي المسلم "ألب أرسلان" رحمه الله. وكان البطل ألب أرسلان من الأتراك السلاجقة، وكان يعاونه في القيادة ابنه "ملكشاه"، فأخذا ينقصان دولة بيزنطة من أطرافها، حتى سيطرا على أرمينية، وكشفا ظهر دولة الرها، وأخضعا عمورية، حتى أصبحا على مقربة من قونية الواقعة على بحر إيجة في آسيا الصغرى.
وفي أثناء ذلك كانت دولة بيزنطة تتحفز لاستعادة أرمينيا وكل ما فقدته من أرجائها، وقد واتتها الفرصة حين توفي الإمبراطور البيزنطي قسطنطين العاشر، فتولت الملك بعده زوجته الإمبراطورة إيدوسيا وصية على ولدها الصغير ميخائيل السابع.
ثم تزوجت الإمبراطورة البيزنطية القائد العام لقواتها رومانوس ديوجين، وكان فارسًا مغوارًا وبطلاً مقدامًا يفاخر الصليبيون بفتوته وبطولاته، فلما رأى نفسه المتصرف في ملك الدولة البيزنطية طفق يؤلف جيشًا من متعصبي الصليبيين، ولم يزل يجمع الجيش، وينفق عليه الأموال الطائلة حتى بلغ جيشه مائة ألف مقاتل، كلهم متعطش لدماء المسلمين! إضافة إلى الحرس الجمهوري القوي الذي كان تدريبهم أعظم من غيرهم.
هذا بالإضافة إلى مرتزقة صليبيين من النورمان والفرنج والصقالبة والترك، المقيمين في جنوب روسيا والبشناق.
فلما أصبح الجيش الصليبي تام التجهيز، توجه صوب أرمينيا بقيادة رومانوس نفسه زوج الإمبراطورة التي رفعته إلى رتبة إمبراطور. وكانت خطته أن يباغت أرمينية قبل أن يصل إليها ألب أرسلان، الذي كان في الجنوب يخمد الفتن. ولما بلغ البطل ألب أرسلان هجوم رومانوس في اتجاه حصن ملاذ كرد وحصن خُلاط، أسرع إلى أرمينيا ليواجه بجيشه الصغير تلك الجموع البيزنطية الهائلة بقيادة رومانوس ذلك الفارس الصليبي المتوثب. وحاول ألب أرسلان دعوة جيشه وجمع أكبر عدد منهم، لكنه وجد الوقت قصيرًا، فلم يتمكن من جمع أكثر من خمسة عشر ألف جندي سار بهم -رحمه الله- ليواجه بهم مائة ألف مقاتل. لكنه-رحمه الله- كان عظيم الأمل في الله، فجمع فرسانه وخطبهم خطبة قال فيها: "سأقاتل صابرًا محتسبًا، فإن انتصرنا فتلك نعمة من الله، وإن كتبت لي الشهادة فهذا كفني وحنوطي جاهزين، وأكملوا معركتكم تحت قيادة ابني ملكشاه".
ثم توجه وجنوده إلى الميدان فوجد قطعة من جيش العدو تقدر بعشرة آلاف عند بلدة خُلاط يقودهم قائد روسي؛ فاصطدم جيش المسلمين بتلك الفئة، فنصر الله المسلمين، وأُسر القائد الروسي، وقُتل عدد كبير من عسكر الكفر وجمعت الغنائم، وأرسلت إلى الخليفة في بغداد، فكان فألاً مباركًا استبشر به المسلمون في مقدمة المعركة الحاسمة. فلما تقارب المعسكران أرسل السلطان ألب أرسلان إلى القائد رومانوس يطلب منه الصلح والمهادنة، فرد الصليبي ردًّا قبيحًا حين كان جوابه (لا هدنة إلا بالري)، يعني أنه لن يقبل هدنة إلا بعد أن يدمر عاصمة السلاجقة، ويحتل كل ديار الإسلام؛ فانزعج السلطان المسلم، وركبه همٌّ شديد لعدم تكافؤ العدد.
وهنا قال الإمام الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعدالله بنصره، وأرجو أن يكون الله قد كتب لك بجيشك القليل شرف النصر، فسِرْ إلى العدو الكافر يوم الجمعة بعد الزوال والأئمة على منابرهم يدعون لجيشك بالنصر، والله غالب على أمره".
وتم ذلك عند ظهيرة يوم جمعة من صيف أربعمائة وثلاث وستين للهجرة (463هـ)، وبينما كان رومانوس ينزل بجيشه واديًا، انقض عليهم القائد المؤمن كأنه قارعة أو صاعقة بعد أن صلى وبكى؛ فبكى الناس لبكائه، ودعا الله فدعا الناس بدعائه، ثم ركب وقال للناس: "ليس عليكم الآن أمير، وكلكم أمير نفسه، من شاء أن ينصرف فليعد إلى أهله".
وألقى القوس والنشاب وحمل السيف والدبوس معلنًا أن الأمر التحام وليس رماية، فالتفَّ الروم حول المسلمين، وكان المسلمون في الوسط. فكانت فرصة وسط الغبار أن يقتل المسلمون عدوهم كيف يشاءون، ودارت الدائرة على العدو الكافر، فتناثر من قتلاهم ما لا يحصى، وجئ بالأسرى وإذا مقاتل صغير الجثة يسوق أمامه قائد الأعداء رومانوس. وتذكر ألب أرسلان أنه مزح مع ذلك العسكري الصغير يومًا، فقال له: وما يدريك أن تُحضر إلينا ملك الروم؟ وحقق الله مزحته، ووقف رومانوس صاغرًا بين يدي ألب أرسلان فضربه القائد المسلم ثلاث مقارع، وقال له: "دعوناك إلى الهدنة فأبيت، فأين الهدنة التي في الري؟ ثم قال له: ما تظن أني فاعل بك؟ فقال: كل سوء".
لكن القائد المسلم -رحمه الله- قبل فدية مقدارها مليون دينار، واشترط عليه أن يطلق أسرى المسلمين؛ فقبل رومانوس ووقع بذلك، وعندئذ ناوله القائد المسلم عشرة آلاف دينار وأطلق معه حاشيته فوصل إلى بيزنطة مهزومًا، وهناك وجد أن الملك الصغير قدبلغ السن فتربع على العرش، فأظهر رومانوس ابتهاجًا بابن زوجته وأخبره أنه وقع على فدية بمليون دينار، فجمع الملك الجديد ما عنده وإذا هو ثلاثمائة ألف دينار فأرسلها رومانوس إلى ألب أرسلان، وحلف له أنه لا يملك غيرها! فقبلها -رحمه الله- وسامح بالباقي.
لقد حصلت هذه المعركة قبل الحرب الصليبية بحوالي عشرين عامًا، فقد مات ألب أرسلان بعد ذلك بعام، وتولى الأمر بعده ابنه ملكشاه. ولكن ظل العرب على الرغم من معركة ملاذ كرد التي يسميها الأجانب "منازي كرت"،ظل العرب إمارات متفرقة يحكم كل واحدة منها أتابك أو أمير إلى أن أقبلت حشود الصليبيين، فدخلوا ديار الإسلام ودمروا البلاد وقتلوا العلماء، وظل الحال كذلك مدة خمسين عامًا، حين هتف بالمسلمين هاتف الإسلام؛ فأيقظهم لتكون الضحية الأولى إمارة الرها التي أسقطها عماد الدين زنكي رحمه الله.
إن تاريخ المسلمين ظل على الزمن عجيبًا؛ لأن الكثرة والقلة لم تكن في حسبان المسلمين، إنما كانت القلة دوامًا منتصرة على الكثرة الكافرة؛ لكن المسلمين كانوا يُهزمون بتفرقهم وشتات أمرهم وأهواء زعمائهم، فإذا سخّر الله لهم من يلمُّ شعثهم ويجمع شملهم، عاد النصر وتحقق فيهم قول الله جل جلاله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
وديار المسلمين في أيامنا هذه تتقاسمها فتن؛ تترك الحليم حيران، ولن يكون لها فرج إلا إذا أبرم الله لها أمر رشد يوحدها تحت راية التوحيد، وكلمة التوحيد، وتتم عندئذٍ كلمة ربك صدقًا وعدلاً، لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.
رحم الله الأمير المسلم ألب أرسلان، وجزاه عن جهاده المحتسب خير الجزاء.
المصدر: كتاب (أبطال ومواقف) للشيخ أحمد فرح عقيلان.